أهل السنة يجمعون بين العلم وبين العبادة -وهذا في مجال السلوك لا العقائد- فالعالم من أهل السنة مع اتصافه بالعلم، نجده عابداً زاهداً، والصحابة والتابعون هم أوضح مثال لذلك -ولا يخالف في هذا أحد- وحتى أئمة السنة مثل: الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وابن رجب، وغيرهم من أئمة السلف، نجدهم أئمة علماء، وفي نفس الوقت عُبَّاداً وزهَّاداً، فجمعوا بين العلم وبين العبادة، أما أهل البدع فإما أن يكون لديهم علم وفقه ومعرفة بالأحكام، لكن مع ضعف في الإيمان -نسأل الله العفو والعافية- لأنه مع فساد العقيدة لا يكون لديهم العبادة والخشوع والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والزهد في الدنيا. وإما أن يكون فيهم العباد والذاكرون والزهاد، ولكن على غير علم، فيذهب أحدهم في الفيافي والبراري يهيم ويتعبد ويذكر الله بدون علم، حتى في الأمور التي يجب أن يعلمها الناس من أمور الحلال والحرام وأحكام العبادات الضرورية.
فـأهل السنة من إيمانهم بالدين كله يحبون الورع، ويحبذون الزهد، ولكنهم لا يحرِّمون الطيبات، فهم يؤمنون بالنصوص الدالة على حل الحلال: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ))[الأعراف:32]، ولا يحلون ولا يحرمون إلا بدليل؛ لأن التحليل والتحريم دون دليل من علامات المفترين على الله الكذب، وهم -في نفس الوقت- يرون أن الزهد والورع درجة عليا ينبغي الحرص عليها.
أما أهل البدع فهم بين:
غارق في الشهوات، حريص على المناصب، كما كان أئمة الاعتزال والرفض يحرصون على أن يكونوا وزراء، ويتملقون للأغنياء، ويتقربون إلى الأمراء والوزراء.
وبين تارك معرض عن الدنيا زاهد فيها، ولا يكتفي بالزهد فيها، بل يلوم ويذم الذين يتمتعون بالطيبات، وكلا الحالين خطأ، فهذا الفساد -وإن كان في السلوك- فإنه يدل على فساد الاعتقاد.
وتأمل حال أئمة الصوفية -والعجيب أن هذه الظاهرة موجودة أينما وجد التصوف، وهذا من علامات فساد منهجهم- تجدهم يتكلمون كثيراً في التنفير عن الدنيا وملذاتها حتى تتعجب من كلامهم، ولكنهم -وهذا ملاحظ وملموس بشكل واضح- يحرصون على أن تكون علاقتهم ومعرفتهم وصلتهم بالتجار والأمراء والوزراء قوية، وكأن شخصيتهم تختفي في الظل، ولكنهم يستغلون ذلك لتقوية علاقتهم بالأثرياء، فأين علاقتهم بالمساكين والضعفاء؟! لا نجد ذلك عند كثير ممن يدعون التصوف، بل كلما ولي خليفة جديد تملقوا له وتقربوا إليه، فكيف نجمع بين دعوتهم للزهد وتحريمهم للطيبات، وبين تملقهم للتجار والأمراء؟!
نعلم وبذلك أن فساد العقيدة والخلل في النظرة يؤدي إلى الخلل في الممارسة، وفي التطبيق والسلوك، بخلاف ما لو كانت العقيدة صحيحة، فلو كانوا يعتقدون أن حلال الدنيا حلال، لما فعلوا ذلك، فالحلال يبقى حلالاً، وما بعد ذلك فهو الورع، فيكون هذا موافقاً للحق، ومن ذلك يعلم أن من ملك الدنيا ثم تركها، أفضل ممن ابتعد عنها ونفسه تتوق إليها ويتملق لأهلها، فالتاجر المؤدي للواجبات، خير من شيخ طريقة ينفر الناس من الدنيا وهو يتملق للتجار ويحرص على علاقاته الودية مع الأثرياء.
فشمول الإسلام وتكامله يظهران جلياً في أخلاق وصفات أهل السنة والجماعة، وإذا قلنا: إننا من أهل السنة، فليس بالضرورة أن يكون واقعنا كذلك، لكن يجب علينا أن نكون كذلك، ولا يجوز أن ندعو إلى شيء ونعمل بخلافه.. نسأل الله العفو والعافية.